القبس

6/3/2000

العدد 9594

 

في التجنيس الفاشل بين الشرق والغرب:

كم بدت السماء غريبة

تركي علي الربيعو

 

في دراسة له عن "صورة  الأخرى في الرواية العربية "يلمح جورج طرابيشي تجاه فرع أساسي في الرواية العربية نحو التعاطي الحصري مع ما يسميه بإشكالية الأنتروبولوجيا الحضارية، أي إشكالية العلاقات ما بين الشرق والغرب التي تنزع وتلتبس بطابع جنسي صريح وذلك في إطار لعبة تجنيس العلاقات الحضارية ومن وجهة نظر طرابيشي أن رواية الأنتروبولوجيا الحضارية، وذلك انطلاقاً من أن الرواية هي بالتعريف "فن الآخر" قد أعطت ثمارها في كل حين. وكانت من أشهى ما أعطته شجرة الرواية العربية على طول المسافة الممتدة روائياً، هي "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، إلى "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح وحيث حول بطلها مصطفى سعيد فراشه إلى ساحة حرب حضارية إلى  "قصة حب مجوسية" لعبد الرحمن منيف..الخ ، عادة ما يكون بطل رواية الأنتروبولوجيا الحضارية ذكراً شرقيا، بينما تكون الأنثى "الأخرى" غريبة، وذلك مع استثناءات خاصة. إذ تتحدث بعض الروايات عن اتجاه معاكس، فقد كان بطل "عصفور من الشرق" يحلم بمصاحبة سوزي ورؤيتها من وراء شباك التذاكر في باريس، فإذا بها تصل بغتة إلى الشرق كما يحدثنا سليمان فياض في روايته "أصوات" لتصبح موضع اشتهاء الجميع ومركز مؤامراتهم. فالنيل من المرأة الغربية هو نيل من الغرب بأسره كما يحدثنا طرابيشي وكما يفحص لنا عن ذلك حسين أحمد أمين في واحدة من مطارحاته.

تندرج رواية بتول الخضيري "كم بدت السماء قريبة، 1999" في إطار رواية الأنتروبولوجيا الحضارية من جهة، ومن جهة أخرى في إطار التجنيس الفاشل بين الشرق والغرب، صحيح أنها تؤرخ لغزو فاشل "غزو العراق للكويت" ولكنها تؤرخ لتجنيس فاشل.

تدور أحداث الرواية في قرية الزعفرانية في جنوب العراق، في ذلك المنزل الريفي المتميز عن غيره من بيوت الفلاحين، الأب عراقي متخصص في كيمياء العطور ويدير معملاً في هذا الخصوص والأم إنجليزية شقراء يقتلها الملل والرتابة وذكورية زوجها الشرقية الكريهة، والذئاب وجميع الحشرات من جهة أخرى في تلك القرية النائية حيث لا أنيس بالمستوى نفسه ولا جليس، وبطلة الرواية هي ابنتهما الوحيدة الموشومة بعقدة إلكترا، فهي سوداء صغيرة وفاحمة تشبه أباه من جميع النواحي حتى في عشقه للعطور.

من الصفحات الأولى للرواية، نجد أنفسنا في سياق تجنيس حضاري فاشل، فالأب منهمك في عمله حريص على ذكوريته الشرقية ألا تمس. والأم ترفض الاندماج في هذا المحيط الريفي، لذلك فهي تتكور في جسدها، تنتظر رياح الربيع، يحركها ضرب من الحنين إلى ثقافتها وأصولها وعاداتها، بضغط من الأم تنتقل الأسرة إلى بغداد، وهناك في العاصمة حيث الحرب والدمار (حرب الخليج الأولى) تنتفض من جسدها العتيق وتبدأ بمطاردة ديفيد الإنجليزي وممارسة الغرام معه والتي تصفها بطلة الرواية بأنها عاطفة مضغوطة في صورة حب.

تهاجر بطلة الرواية مع أمها وأبيها إلى بغداد. وهناك تحصل على الشهادة الثانوية وتدخل إلى معهد للباليه والرقص. ولكن ظروف حرب الخليج الأولى تمنعها من متابعة المسير، يتوفى الوالد بالجلطة القلبية وهو على علم بأن زوجته تخونه مع ديفيد أو داوود بحسب ما يناديه هو، تصاب الأم بالسرطان الثدي. فتهاجر وابنتها إلى بلاد الضباب. تصعد الابنة سلالم الطائرة تحمل حقيبة واحدة تتبعها أمها بثدي واحد على حد تعبيرها، وتجر وراءها علاقة غرامية مع ذلك الآشوري الذي تخلى عنها.

في إنجلترا تصل بطلة الرواية، لا كما يصل بطل "عصفور من الشرق "فهي تعرف هذا المجتمع، من خلال أمها. ومن معرفتها الوثيقة باللغة الإنجليزية التي تؤهلها لوظيفة مترجمة، وفي إنجلترا تجد بطلة الرواية نفسها محاصرة بين تكوينها الشرقي وبين تكوين المجتمع الغربي، بين والدتها المحاصرة في المشفى حيث يسري الداء العضال في جسدها وجسد زميلاتها اللواتي يتساقطن كضحايا على أعتاب هذا الداء الواحدة تلو الأخرى وبين رغباتها في الحياة، فتعشق آرنو الفرنسي، تحبل منه ثم تقرر الإجهاض عمداً، يتخلى عنها آرنو، ولكنها لا تأبه لذلك. فقد اكتشفت أنه لا يزيد عن كونه "سحلية أخذت تتقمص دور الخنزير". تتوفى والدتها في غير أوانه، وسرعان ما تظهر بطلة الرواية وهي ممسكة بالقرآن الذي لم يفارقها أبداُ كما تخبرنا، وكأنها تتمسك بوالدها وبالشرق كله، وكأنها تريد أن تثبت لنا أنها وبالرغم من كونها ثمرة تجنيس فاشل، فهي مثل نخلة الطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال" مخلوق له أصل وله جذور وله هدف؟