جريدة الزمان

3/18/1999

مقدمات

كم بدت السماء قريبة

د. فاتح عبد السلام

 

لا أدري بالضبط أهو ليل الشعر العراقي المهيمن على ساحة الأدب هناك من إمكانات انتشار الفن الروائي العراقي أم أنه اختلال في موازنة تطور الإبداع في إطار نظرية الأنواع الأدبية. ولكن الأمر واقع. إذ لم تستطع الرواية العراقية أن تخرج من أطر ضيقة ومدارات مستهلكة وأشكال فنية محدودة. وهذه حقيقة الفن الروائي العربي أيضاً خارج الإنجازات الفردية الاستثنائية، غير أن الاستثناءات في الرواية العراقية باتت قليلة وكادت تضمحل بعد موجة الكتابات السهلة في موضع رواية الحرب حين كان الكتاب يبيعون نتاجهم للإعلام الرسمي بدوافع شتى. وحين تقع بين يدي رواية عراقية لم ترض الرزوح تحت أثقال وتبعات وعقد ورماد، أجدني مضطراً للوقوف عندها، متأملاً ومنوهاً وهذه الأيام ولدت رواية عراقية جديدة لكاتبة عراقية لم يعهد اسمها الوسط الأدبي العراقي ولم يسبق لها أن كتبت عملاً آخر. ولكن روايتها (كم بدت السماء قريبة) تدفعها إلى صدارة الفن الروائي العراقي في هذه الحقبة وتضيف إلى الرواية العربية جديداً وأصيلاً لا يتكئ على أحد ولا يتعثر بخطوات من سبقه. إنها بتول الخضيري في تجربة روائية تحكي فيها جانباً من قصة وطن طويل تتداخل مع حكاية فتاة عراقية هي نتاج لزواج عراقي من جذر فلاحي من إنجليزية متعصبة لتقاليدها وكينونة مجتمعها. ولا أريد أن أتحدث عن تفاصيل الرواية في عرض أحداثها فليس لهذا الأمر مكان هنا ولكنني أنوه إلى أنها من الروايات القليلة التي استوعبت الحرب بوصفها جدلاً من علاقات مواجهة الإنسان مع حقائق وأوهام من الصعب الفصل بينهما.

مما يجعل هذه الرواية مؤهلة لأن تكون نصاً جديداً في طريق يكاد يكون مسدوداً بالتكرار هو طلاقتها في التعبير عن وجهة نظر الراوي الذي يتصدى ولا يتخفى أو يتردد، لا تحده ممنوعات مسبقة تعرقل مسيرته فهو ماض بقوى وثبات ومن هنا تخلخلت دعامات في الكتابة السائدة التي تضع قائمة الممنوعات والمسموحات قبل الشروع في النص.

أما الجانب الثاني، فهو تمكن الروائية من تقديم لغة بيانية-شعرية-في انزياحاتها العميقة التي تجاوزت فيها موروثاً من استعارات وتشبيهات مستهلكة في إطار سرد حقق علائق متوازنة وضاجة بلفت الانتباه مع الحوار الذي ارتكز ثقل الرواية عليه.

وكأنني أمام سيرة ذاتية للكاتبة فهي تكتب من داخل اللهيب المكتوم، بلا تكلف ولا إقحام ولو قللت من نصوص مجتزاة من بيانات عسكرية عن الحرب ووقائعها لاكتنز النص بعمق إيماني أقوى، وعبر إحساسي بأنها رواية سيرة في وجه من الوجوه، أكون أمام تساؤل هل تستطيع هذه الكاتبة الواعدة والواعية لفن الرواية أن تخرج إلى موضوعات أخرى لا ترتكز على النوازع الذاتية المعاشة حصراً. لا أشك في أنها تستطيع أن تفعل ذلك. على الرغم من أنني أشعر أنها قالت كل شيء ومرت على كل المساحات في هذا النص العنيف، المقتحم للمحرمات والمعبر بأصالة فنية عن تجربة جيل الحرب، من خلال النجاح في تحويل ما هو ذاتي إلى قضية وأفق مفتوح لمأساة إنسانية متعددة الجيوب والسبل والأدوار. ولكنني أتمنى ألا تكون قد قالت في نصها كل شيء.

لعلي أكثر فرحاً بهذه الرواية من ناقد متخصص، كوني أمارس الكتابة في هذه الفن الجميل والخطير، لذلك يكون من الواجب الأخلاقي أن يعترف المرء بالإضافات العميقة في الرواية العربية التي لم تخرج من ثوب أحد ولم ترهن وجودها بتبعية تهين الإبداع والمبدع قلما كتبت بطريقة احتفائية عن كتاب. فطالما شغلني التحليل النقدي وتفكيك النص، ولكن وقفتي هنا جزء من فتح باب التناول النقدي لي أو لغيري من الأدباء والنقاد الذين لا يمكن لهم أن يتجاوزوا هذه الرواية إذا أرادوا فحص مسيرة الرواية العراقية أو الرواية العربية.

(كم بدت السماء قريبة) رواية سأعود إليها في زمن آخر.