المرأة العراقية والحصار

مجلة نور، ربيع 2001

 

محمود أمين العالم

قراءة لرواية (كم بدت السماء قريبة)


((تنبض ذاكرتي على رصيف شارع))- هكذا تبدأ رواية ((كم بدت السماء قريبة)) للكاتبة العراقية بتول الخضيري (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999). تكاد هذه العبارة الأولى توحي إلينا بأن الرواية هي سيرة ذاتية، تبدأ من مرحلة مبكرة من مراحل الطفولة، حيث إن الجمل التالية لها تكشف لنا عن يد طفلة يسحبها والدها بالقرب من سياج مدرسة على وشك أن تغيب فيها الطفلة، على حين يمضي هو في طريقه. وعندما تصل قراءتنا للرواية إلى نهايتها، نتيقن بالفعل من أنها سيرة ذاتية، أو بتعبير أكثر دقة، أن بنيتها الروائية هي بنية سيرة ذاتية، أساساً، نتابع أحداثها ونعايشها معايشة حميمة-طوال حركة المكان وامتداد الزمان-على لسان أو بضمير ((المتكلم-المتكلمة)) أو الراوية، وهي هذه الطفلة الصغيرة التي ستكبر مع الرواية، وتكبر الرواية بإفضاءاتها الذاتية المتصلة. ويدعم هذه القراءة للرواية، باعتبارها سيرة ذاتية، أننا نتعرف إلى أسماء أغلب شخصياتها باستثناء الراوية.

ومع ذلك فإن الرواية-في قراءتي لها- أعمق من أن تكون مجرد سيرة ذاتية، برغم مظهر بنيتها الذي يؤكد ذلك. فهذه البنية الذاتية تكاد تكون مجرد الحامل أو الإطار الحاكي لمسيرة وقائع موضوعية أشمل وأعمق، وليست مجرد سيرة ذاتية على شمول هذه السيرة وعمقها. وليس الأمر تداخلاً بنيوياً بين الذاتي والموضوعي في الرواية، وهو أمر طبيعي ومنطقي، فليس ثمة انفصال بين الذات والموضوع في أية سيرة ذاتية، فهناك بالضرورة، تداخل وتفاعل موضوعها الأساسي الحاكم لبنيتها ودلالتها. على أن الجانب الموضوعي يكاد، بدوره، يبرز باعتباره موضوعها الأساسي الحاكم لبنيتها ودلالتها! ولهذا نستشعر-من ناحية-طوال قراءتنا للرواية، أن بين هذين الجانبين توازياً وتراصفاً لا أكثر، وإن كنا نستشعر، من ناحية أخرى، تواشجاً وتمازجاً عميقاً بينهما، يبلغ حد التكامل في تشكيل وحدة بنية الرواية ودلالتها، وفي شحذ فاعليتها الجمالية الفنية. وتدور هذه الوحدة حول محور أساسي هو محنة الشعب العراقي طوال الحرب العراقية-الإيرانية، والحرب التالية لها المسماة من جانب "أم المعارك"، ومن جانب آخر "عاصفة الصحراء"! وفي قلب هذا المحور، تنبض رؤية إنسانية بالغة العمق والخصوصية تكاد تكون محوراً أساسياً مضاداً، إلا أنها رؤية محاصرة مقهورة طوال أحداث الرواية، تشكل من مفردات محددة هي الحب والحرية والفن والإبداع وإرادة المقاومة والتجاوز. ولعل عنوان الرواية يكون تعبيراً رمزياً عنها، بل لعل لغة الرواية السردية الغنية الملتبسة بين الرصد التسجيلي والتفصيلي، من ناحية، والإفضاء الباطني الذاتي المأساوي والحواري، أحياناً من ناحية أخرى-تعكس هذه الثنائية المضادة.

 

ولهذا، وبرغم أن الرواية تتشكل من عشرة فصول محددة، فإن قراءتي لها تعيد تشكيلها في ثلاثة أبواب كبيرة تمتد خلالها هذه الفصول العشرة. وأكاد أتبين في كل باب من هذه الأبواب ثنائية أو مفارقة بين طرفين أو أكثر، تختلف باختلاف كل باب وتميزه. ومن هذه الثنائيات والمفارقات، تتشكل حركة الرواية في نموها المأساوي والإبداعي، كما سنجتهد في تبيان ذلك في الفقرات التالية.

 

يتكون الباب الأول-في قراءتي-من ثلاثة فصول، على أننا منذ السطور الأولى للفصل الأول نتبين خلافاً بين والد الطفلة ووالدتها. وبرغم التفاصيل المتنوعة لهذا الخلاف، فإن جوهره-كما سنتبين طوال الفصول الأولى للرواية-ينبع من اختلاف انتسابهما القومي، فهي إنجليزية وهو عراقي. ولهذا، يكاد هذا الاختلاف يرمز برهافة إلى اختلاف أكبر وأعمق هو التمايز الحضاري بين الشرق والغرب، في مختلف جوانب الحياة ورؤاها السلوكية والقيمية، وينعكس هذا في منهج تربية طفلتهما، أو في تذوق الطعام، بل يرتفع إلى حرية الزوجة في أن يكون لها عشيق من جنسيتها الإنجليزية، متزوج هو الآخر، هو دافيد أو داود، كما يحب الوالد أن يناديه، بما يتضمن إيحاء بيهوديته ويعمق الاختلاف و الخلاف يبرز أساساً، في الفصول الأولى للرواية، بين الزوجين، إلا أننا سوف نلمح هذا الجوهر الحضاري-إن صح التعبير-للاختلاف، بعد ذلك، متجسداً في سلوك "الغرب" إزاء "الشرق"، في بعض الأحداث الكبرى للرواية-وبخاصة حرب الخليج.

 

وتبرز الفصول الثلاثة برهافة، أيضاً، خلافاً آخر يغلب عليه الطابع الطبقي الخالص وليس القومي أو الحضاري. ويتمثل ذلك في الانتقاد أو الرفض إلى حد الاشمئزاز للعلاقة الحميمة التي تنمو بين الفتاة الصغيرة وفتاة أخرى في سنها، من أسرة فقيرة تسكن في كوخ قريب.

لكن الفتاة/الابنة/الرواية تجد سعادتها وإحساسها بالحرية والانطلاق في صداقتها لهذه الفتاة، ولأسرتها الفقيرة. وعندنا ارتفعت بها، ذات مرة، الأرجوحة البدائية البسيطة التي صنعتها لها صديقتها الفقيرة "استنشقت خط الأفق..وعندها…كم بدت السماء قريبة!!"؟ وهكذا، تصبح الصداقة والأفق، والسماء، منذ بداية الرواية، والشمس، بعد ذلك، رمزاُ للحرية، والانطلاق والدفء الإنساني المشترك في مواجهة التمايز والاستعلاء والتسلط، سواء كان عائلياً أو طبقياً أو عدواناً خارجياً. وسيبرز هذا الرمز بشكل أكثر عمقاً وجهارة في عمل فني رائع تقدمه الرواية في ختام بابها الثاني.

 

وفي داخل علاقة المفارقة بين الزوج والزوجة، من ناحية، وابنتهما، من ناحية ثاني، إزاء، علاقتها بالفتاة الفقيرة، تنبثق علاقة أخرى حميمة بين الأب وابنته. فالأب تاجر مطيبات وعطور، وهو يجتهد في تسمية المطيبات والعطور تسميات شاعرية متميزة، فيدعو ابنته إلى مشاركته في لعبة أو فن التسمية هذه. وعلى سبيل المثال، وما أكثر وأجمل الأمثلة الأخرى، يشير الأب إلى لون ويسأل الرواية عن اسمه المقترح، فيقول "أزرق فاتح"، فيقول لها: لا…لماذا لا نسميه رذاذ البحر، أو الثلج الجاف، أو ضبابا من فضة؟! وهكذا تتحول لعبة التسمية اللونية هذه إلى علبة إبداع "تتلون أيامنا"، بها، على حد تعبير الفتاة/الرواية. وتكاد تعبر الرواية بهذا عن لحظة اقتراب أخرى من السماء! وينتهي الباب الأول بفصوله الثلاثة نهاية مأساوية مفاجئة-يقول لها أبوها: يجب أن تعرفي شيئاً…فتجيب مباشرة في صيغة سؤال، كأنما تتوقع هذا الذي يحدثها عنه: تطلقتم؟! فيجبيها: لا…الحرب قامت مع إيران.

 

وهكذا، ينفتح أمامنا الباب الثاني بفصليه الرابع والخامس على ضراوة الحرب العراقية-الإيرانية، لننتقل من ثنائية ومفارقة الباب الأول إلى ثنائية ومفارقة أكثر حدة وشراسة، ولكن، مع محاولة إنسانية أخرى للاقتراب من السماء، أيضاً، من الشمس، برغم هذه الثنائية الشرسة.

 

ينتقل بنا الفصل الرابع مباشرة إلى ساحة المعركة: أناشيد الحرب، وقعقعة أسلحة الدمار والبيانات العسكرية، وضرب المدن الآهلة بالسكان بالمدفعيات الثقيلة، وسقوط الجثث من الجانبين، وتدهور الأوضاع المعيشية وإعلان لائحة التسعيرات، وانقطاع الماء والكهرباء والتلفزيون، وإعلان خطة اقتصادية جديدة في مواجهة الأوضاع المتردية، مع إعلان لافتة بقائمة أسماء الشهداء، والإشارة إلى إقامة قاعدة عسكرية مضادة للطيران وسط حدائق متنزهات الزوراء عند "نافورة العشاق"! إلى غير ذلك من متعلقات ونتائج هذا الصراع العراقي-الإيراني الذي تحول إلى حرب عدوانية شاملة. غير إن الرواية لا تتابع أخبار الحرب ومواجعها في متنها السردي المروي، وإنما يتم ذلك-في أغلب الأحيان-في صورة تقريرية تسجيلية، عن طريق البيانات والقرارات والتصريحات الرسمية والنشرات الإعلامية. وما أكثر ما يتم ذلك بالتقاطع مع مسيرة السرد الحكائي المروي بشكل مفاجئ حاد! ولهذا، فالرواية أو الرواية لا تعبر في سردها عن تحيز لجانب ضد آخر بشكل مباشر في هذه الحرب، بل نستشعر الرفض الضمني لها بآثار ونتائج ما تسجله بياناتها ووقائعها المذاعة أو المروية، وإن كنا نستشعر هذا الرفض-أحياناً-في صورة سخرية غير مباشرة، لكنها شديدة المرارة تنبع من مجرد سرد بعض الوقائع. ويتمثل ذلك في أنه في مع تزايد عدد القتلى تبدأ الإذاعة في الإعلان عن قرار بامتناع الصيدليات عن بيع حبوب منع الحمل، وعن بدء حملة لتشجيع الزواج والإنجاب المبكر، وصرف إعانات مادية للزواج، وإقامة تدريب للجيش الشعبي للبنات، إلى غير ذلك. وهكذا،يصبح الحب والزواج والإنجاب بهدف تغذية الحرب.

 

وفي قلب هذه العسكرة الشاملة للحياة، تنبض قيمة أخرى مضادة هي الفن الذي يتجسد في مدرسة للرقص المسرحي، تقوم عليها وتتحمس لها "المدام" وهي أستاذة عراقية في فن الرقص المسرحي آتية من الاتحاد السوفييتي، بعد إتمام دراستها الفنية. إنها ترى الفن هو العمل من أجل المستقبل، وهو النقيض الموضوعي للحرب والدمار والموت. وبهذا، يصبح تدريب العضلات للرقص-على حد تعبيرها-في مواجهة التدريب على الطلقات للحرب! وتلتقي "المدام" بالرواية التي التحقت بالمدرسة، وتعدها بأنها ستجعل منها فراشة، ولهذا، تكثف تدريبها، وتتيح لها التعرف إلى فنان نحات، تزوره فتفاجئها منحوتاته البالغة التشوه والتناقض في تكوينها، تقول له: "المنحوتات تعبر عن ما يدور في الخارج"، يرد "نعم…والخارج يقتل الداخل". إنه فنان يعمل تحت القصف بالطلب!! يذهب كل يوم إلى المعسكر ينحت مناضد عسكرية وجبسية ومن قطع الكرتون، أي يوظف فنه للحرب دون ان يكون له حق السؤال. وتفضي به خدمته، أخيراً، إلى أن تكون مهمته نقل بقايا جثث القتلى إلى ذويهم! يقوم بينهما حب صامت وأول لقاء جنسي لا، وعنه تعبر الرواية تعبيراً بالغ العذوبة، تتحسس بعده بأصابعها ما تسميه "حمرة المغيب"، دون أن تبكي "مثلما يحدث في الأفلام المصرية"! على حد قولها.

 

يتخلل هذا كله أخبار المعارك والبلاغات العسكرية، ويموت والدها، وتصاب أمها بسرطان الثدي وتفقد أحد ثدييها، ثم تتوقف الحرب، وأخيراً، يتاح السفر إلى الخارج. كان عليها أن تختار بين أن تبقى مع الحب، مع فنانها في وطنها، أو تسافر مع أمها المريضة إلى إنجلترا! وتختار السفر، الواجب. وقبل أن ينزل الستار على الفصل الخامس وهو الأخير في الباب الثاني، حسب تقسيمنا، نشاهد، بالسرد الحكائي، مسرحية راقصة كأنها تعبر عن الرؤية الإنسانية العامة الرفيعة للرواية، تقوم على حرب ضارية بين فريقين يدعي كل منهما ملكية الشمس! وتنتهي المسرحية عندما تنبثق من وسط خشبة المسرح حورية ماء، إنها "المدام" كأنها أسطورة، راحت ترقص سؤالاً إنسانياً كبيراً: "النور نعمة للجميع وليس ملكاً لأحد، تركة لا يجب القتاللا لاقتسامها"، "ماذا لو رحلت الشمس؟ سنموت…ولا يمكن أن نجمع في محيطنا أفقاً جميلاً". وهكذا، يعود الأفق، وتعود السماء، وتعود الشمس في نهاية الباب الثاني، رمزاً لإنسانية الإنسان ودفء علاقاته التي يجب أن نحرص عليها، في مواجهة الحرب والدمار. ونعرف من الرواية أن "المدام" هي ابنة لأم عراقية وأب إيراني، تم الطلاق بينهما منذ فترة بعيدة. عاد الزوج إلى إيران آخذاً معه شقيقاً للمدام، وبقيت هي مع أمها. من يدري ربما يحارب شقيقها في المعسكر الإيراني! أو أن "المدام" كانت ترقص لشقيقها الإيراني؟!

الباب الثالث وهو الأخير، حسب تقسيمنا للرواية، يجيء أكثر من البابين السابقين من حيث عدد فصوله التي تمتد من الفصل السادس حتى العاشر، إلا أنه يعد أقل الفصول حجماً-نسبياُ-وإن كان أشدها قسوة ومأساوية.

 

يبدأ الباب الثالث بالخريف في لندن، وينتهي بالخريف، أيضاً! ونقضي أغلب زمنه في مستشفي، حيث تواصل الأم فحوصاتها الطبية تحت رعاية طبيب مختص في سرطان الثدي. لكننا نتحرك مع الرواية خارج المستشفى، وينفتح أمامنا "الغرب" بشوارعه ومقاهيه وساكنيه المتنوعي الجنسية، فضلاً عن إعلانات الإغراءات الجنسية ومراكز الهامبرجر والكوكاولا، وإصدارات سوق البورصة، والمجلات الفاضحة، إلى غير ذلك من التفاصيل البالغة التنوع والتناقض في شارع الغرب، في عاصمة كبرى من عواصمه. وفي صباح يوم من أيام إقامتها الأولى، تقرأ "الرواية" وهي جالسة في مقهى أن "الأمم المتحدة تدين دخول العراق إلى الكويت". والملاحظ أن الرواية اكتفت بهذه الإشارة العابرة المحايدة-على الأقل-للمرحلة الأولى من الحرب، ولم تتوقف نهائياً عند دلالتها ومسئوليتها عن ما حدث بعد ذلك من حرب إبادة ضد الشعب العراقي، ركزت عليها تركيزاً كبيراً، على خلاف موقفها المتوازن من الحرب العراقية-الإيرانية.

 

في اليوم التالي، تعرف أن الأمم المتحدة "تعلن عن منع التعامل مع العراق وتؤكد أنها سترسل قواتها البرية إلى منطقة الخليج العربي". وما يلبث أن يفرض الحصار الاقتصادي وتأخذ الجيوش والطائرات تتحرك إلى هذه المنطقة- "القطاعات العسكرية المرسلة إلى المنطقة بلغت أربعمائة ألف جندي من دول الحلفاء تحضيراً للهجوم الافتتاحي"، "الكونجرس يعطي الرئيس الأمريكي صلاحية إعلان الحرب"، "مظاهرات الشباب في ساحة "الطرف الأغر" تصرخ بهتافات السلام ووقف إطلاق النار وقتل البشر الأبرياء وتجويع الأطفال". ويزداد الموقف عنفاً. "الغارة الجوية الأولى على بغداد. خارطة العراق تحت القصف الناري تشبه شجرة عيد ميلاد مضاءة"…القصف السجادي، بمعنى أن "متفجراته تسقط فتدمر أكبر مساحة ممكنة من ساحة العمليات"، "القذائف بلغت حتى الآن أربعين ألف طن من مواد متفجرة"، "الجحيم علبة انفتح غطاؤها"، الطيارون الأمريكان يعودون إلى قواعدهم سالمين في السعودية"…الحديث عن استخدام السلاح الكيماوي.

    وفي المستشفى، يتكلم الأطباء عن خشية استفحال الخلايا المريضة وانتشارها. خلايا السرطان تنتقل من ثدي إلى آخر ثم إلى عظام أسفل الظهر. ويتم اتخاذ قرار باستخدام العلاج الكيماوي. السلاح الكيماوي في جانب والعلاج الكيماوي في جانب آخر! الثنائيات الضدية تواصل رسم خريطة التاريخ الإنساني!!

رسالة من "الوطن". مفردة "الوطن" تبرز في هذه الفصول الأخيرة. "لم نعد نملك من مظاهر الحضارة غير ركوب الدراجات"، "شجرة زهر الكاردينيا في شارع الجاردية التي كنا نسرق منها حصتنا كل ربيع، نائمة تحت الأنقاض"، "بعض الناس ينامون وفمهم مفتوح عن عمد. يخافون الموت المفاجئ إثر انفجار داخلي بسبب انفجار خارجي"!! "القنابل تهطل فوق رءوسنا".. الخ.

    وفي خضم ما يحدث هناك في "الوطن"، وما يحدث هنا في المستشفى، تقع "الرواية" في قصة حب مع "أرنو" الأوروبي الإفريقي. يغيب عنها بضعة أشهر تكتشف فيها أنها حامل. تتحمل وحدها مسئولية إجهاض حملها. يأتي أرنو أخيراً، متنصلاً، معتذراً، لأنه لم يخبرها بأنه متزوج. قصة حب رديئة مثله. يفترقان أغراباً-كما تقول- وهي تتركه لتسرعه إلى أمها التي تحتضر. يطول عذاب أمها معنوياً وجسدياً "هل تخفف زيادة نسبة المورفين ألم النهايات" ؟ وأخيراً، أطبقت أجفانها المرهقة! وأخبار "الوطن" أصابها-هي الأخرى-تعتيم ي إذاعات العالم. مكالمة هاتفية من "الوطن"، من داخل الحصار "نحن نأكل (…) بالإبرة، لا الإبرة تشيل ولا (…) يخلص. نتركها في السطر الأخير من الرواية، تنتظر الباص رقم 27. الذاهب إلى أين؟ إلى عملها ؟ إلى رتابة حياتها المتغربة ؟ إلى الغوص في محنة "الوطن" التي تتفاقم؟

    هذه، باختصار وتركيز شديدين، بعض التضاريس الخارجية الأساسية لهذه الرواية/السيرة الذاتية المتميزة حقاً برؤيتها الإنسانية الرفيعة، وحساسيتها المرهفة، وبنيتها الفنية المتسقة، برغم، وبفضل، ما تزخر به من أصوات متعددة سردية وتقريرية وحوارية، وثنائيات ومفارقات ضدية، وتناقضات حدثية وقيمية وموقفية، ورؤى تفصيلية مغرقة في تفاصيلها، وتشابك حميم بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي دون طمس لأحدهما، ومستويات مختلفة من المعاني الظاهرة والباطنة والمباشرة وغير المباشرة، التقريرية والانطابعية، فضلاً عن أفقها الإنساني المفتوح، وإدراكها العميق لمعنى الفن، لا بالحديث أو الدفاع عنه بل توظيفه وإبداعه، إلى غير ذلك.

    قد لا يسمح المجال بتفصيل، ولهذا، حسبي الإشارة المجزأة إلى صفتين حاكمتين في طبية السرد الفني لهذه الرواية. الصفة الأولى هي السرد بالجمل السريعة المتلاحقة. والثانية هي أنسنة الأشياء. وأكتفي بنموذج على الصفة الأولى، برغم أنها الصفة السائدة في الرواية، نفتح أية صفحة فتواجهنا: نقرأ، مثلاً، في صفحة 69 "ازدادت وحدتي ذلك المساء. توقف أزيز المروحة وحل الحر عندي والظلام أشعلت شمعة. ألهاني تأملها عن الدراسة. أغلقت الكتاب بضجر. سقطت بعوضة في قدح الشاي بقرب الشمعة"، وهكذا. وتقدم الراوية، على هذا النحو في صفحة 158 من الرواية، لوحة تفصيلية لمدينة لندن شديدة الدلالة.

    أما الصفة الثانية، وهي أنسنة الأشياء، فأقصد بها إرجاع الرواية بعض الفاعليات إلى الأشياء نفسها لا إلى الإنسان، دون إلغاء دور الإنسان، لإبراز عمق العلاقة بينهما، في ما يبدو! وما أكثر الأمثلة التي تستخدم فيا الرواية فعل "الابتلاع" للتعبير عن ذلك: مثل "المقاهي تبتلع الطبقة العاملة"، و "ممر المشاة تبتلعه السماء"، ومثل "يبلعني دهليز مضبب"، ومثل "ابتلع مشيته الهادئة قسم الأمراض"، ومثل "ابتلعتها حافتا التلفزيون". وما أكثر الأمثلة والتعابير الأخرى الدالة على هذه الصفة السردية. ولا يسمح المجال بتحليلها، فضلاً عن تحليل صفات أخرى تتسم بها هذه الرواية المتميزة.

    هذه هي قراءتي المجتزأة لرواية "كم بدت السماء قريبة" للكاتبة الأديبة بتول الخضيري التي تكشف لنا عن عمل روائي متميز، وكاتبة مبدعة ذات رؤية قومية وإنسانية رفيعة نبيلة، تمتلك أدوات الكتابة الروائية، وبخاصة أنها روايتها الأولى.

    إن هذه الرواية إضافة جادة لا إلى الرواية العراقية ذات التاريخ الأدبي العريق فحسب بل إلى الرواية العربية المعاصرة عامة، فضلاً عن أن لها فضل التعبير عن الجرح العراقي النازف في جسدنا العربي، بدرجة عالية نسبياً من الإبداع والموضوعية.