In the Press

 
 

اعادة تأهيل العراق 2004 - مؤتمر الرجل الحكيم

بتول الخضيري

كنت أظن أني غادرت مجتمع رجال الأعمال منذ أن تركت العمل في شركة العائلة لأتفرغ لكتابة الرواية. ولكن ماجذبني لذات المجتمع هو عنوان المؤتمر الأخير المنعقد في عمان اعادة تأهيل العراق 2004 وشعار المؤتمر الذي يفتح الشهية التق المشترين والهامش المُغري الأردن ـ بوابة العراق .
كانت الغاية الاساسية من هذا الحدث تفعيل علاقات العمل بين الشركات العراقية والعالم، وكان هذا المؤتمر، مقارنة بالمؤتمرات السابقة، اكثر هدوءاً ومبعثاً للاسترخاء، فلا عرق يتصبب من الجباه، ولا أصوات مرتفعة غاضبة من رجال أعمال مبتدئين. حتي أجهزة الهاتف النقال، كانت بأصوات منغمة ناعمة بدل الرنين الذي يصم الآذان. ولأرتفاع اجور الاشتراك في مؤتمر هذا العام عنها في العام الماضي فقد كان عدد الحضور قليلاً، مما ترك الساحة خالية إلا لمن لهم باع طويل في دنيا الأعمال، ومن كان بياض شعره يفوق السواد. أهي ظاهرة الرجل الحكيم ياتُري؟ أم ان جيل الشباب لا يتكلم الانكليزية بطلاقة، ولا يملك الخبرة العملية التي يملكها الجيل السابق؟
بعد تلك الطريقة الاستفزازية التي كانت تتبناها سلطة الائتلاف المؤقتة، بتصريح: جئنا لنبقي ، اصبح الجو العام هذه المرة اكثر طراوة. كان منشور المؤتمر يروّج لاحدي المؤسسات الخيرية البريطانية شعارها صورة طفل جميل تحتها هامش يدعو الي حماية اطفال العراق من سوء التغذية، والجروح، والامراض المنقولة عن طريق المياه الملوثة والسرطانات.
في قسم المعرض الدولي، كان الزوار يتبادلون الكثير من الابتسامات العريضة. راحت بطاقات الوفود التعريفية تصدر صفيراً الكترونياً اثناء اختراقها جهاز الفحص الأمني وهم يمرون من أمام موقع شركة تركية لبيع اجنحة الدجاج يتقدمها شعار الصداقة من خلال التجارة . شركات أردنية تروّج للسياحة والعقبة 375 كيلو متراً مربعاً من الفرص ومعها ابتسامة. ولا يمكن للفرد ان يغفل عن ذلك النموذج الامريكي الشبيه بالصور المتحركة لحفارة تحفر بكل الاوضاع العمودية والافقية والمائلة اطلق عليها ساحرة السواقي وتستخدم لحفر الملاجئ والخنادق والانفاق فوق الارض وتحتها. تلك كانت تختلف عن آلة ايرانية الصنع اطلق عليها اسم المطرقة الهايدروليكية لدك الاسس والركائز الحديدية ويمكنها العمل تحت الماء. وتصادف بعض الوجوه القنوعة عند لوحة (سيكاير) من انتاج أوروبا الشرقية، مجاورة لمنصة مكتوب عليها شركة الحظ السعيد لأنابيب الحديد . وتناولتُ منشوراً عن شركة سعودية تروّج لتطوير نظام العمرة الالكتروني وتوعد شركاءها بأن مواقعهم ستكون بمثابة مزارات مقدسة للمسلمين في كل انحاء المعمورة. وانتهت جولتنا الترحيبية تلك بحفنة من قطع الحلوي مقدمة في طبق من الألمنيوم يتدلي من جهاز لتنقية الدم ـ صنع في انكلترا.
كان أول أيام المؤتمر مخصصاً للطاقة، فقام وزير الكهرباء العراقي مستعيناً بمخطط يشرح عن الطاقة الكهرومائية والتوربينات الغازية. قال الوزير، مشيراً الي ست مداخن ترتفع في الأفق: ان مدخنة واحدة تعمل فقط من مجموع ست مداخن، وهذا يعني ان هناك نقصاً في الطاقة يبلغ 13000 ميغاواط، ولو كانت الامور طبيعية فستعمل كل المولدات وهذا مانتوقعه في عام 2010، ولكن الدائرة المغلقة هي: أولاً الناحية الأمنية، ثم الكهرباء، ولكن لا أمن من دون الكهرباء . كانت حلوله مرحة لنؤجر رجال العصابات الذين يخربون منشأتنا ليوقفوها عن العمل. فهم خبراء في تفكيك المعدات والهروب بها بسرعة فائقة. فلديهم الكفاءة والسرعة في هذا المجال .
عندما فسر معادلة الطاقة مبسطاً اياها: ان كمية الماء التي نحتاجها هي التي تحدد كمية الكهرباء الذي سنولده . قلت لنفسي انه الرجل المناسب في المكان المناسب . وتذكرت من النوادر التي كان العراقيون يتندرون بها عن أيام العهد الماضي، تدور حول موظف كبير سأل مستشاريه عما يحتاجه لمعالجة الوضع فجاءه الجواب: سيدي.. ستيم بالانكليزية (اي بخار) فأمر مساعديه بالبحث عن الـ ستيم اللعين هذا وجلب كل ما يتيسر منه في الاسواق.
وعلي أية حال فلقد أصر الوزير علي اشراقة المستقبل: الشعب يدفع نصف دولار للكهرباء، ولقد حان الوقت لجعل العراقيين يدفعون للوسائل الجديدة من تجهيز الطاقة. هذا قد يدفعهم ليكونوا أناساً مسؤولين عندما نتكلم عن ترشيد الطاقة، بعدما تعودوا علي الكهرباء الرخيصة في الماضي. ولنضمن بعض الربح مادمنا فيها. وما فتئ يعيد استثمروا في الكهرباء، فستستردون أموالكم. انها تجارة رابحة . وظل يرددها وكأنه يؤذن للصلاة.
كان اليوم الثاني للمؤتمر مخصصاً لنساء الأعمال العراقيات. كن يتحركن في كل مكان وكأنهن أوزات يسبحن علي أديم الماء، يحاولن الترويج لمؤسستهن التي تشكلت في 2003 لتحقيق طموحاتهن. عليهن أولاً أن ينجين من الاختطاف، وثانياً أن لا يعبأن بتهديدات الموت وضغوط ترك الوطن. وثالثاً، عليهن اخبار العالم بأنهن يشكلن الآن 60 % من السكان. ورابعاً، انهن يتطلعن بتمني الي أن يُمنحن حصة 25% من المقاعد في الانتخابات القادمة. كانت مهنهن متباينة بين مديرات عامات، وزيرات، صحافيات، تاجرات وممثلات منظمات غير حكومية. قالت رئيسة جمعية اعادة تأهيل الطلبة ومحو الأمية: ان عقدين من الحروب والخوف والاضطهاد قد أدت الي الفقر والبطالة وارغمت حوالي 2.1 مليون طالب لترك المدرسة. ان هؤلاء الايتام والاطفال الفقراء معرضون لأن تغريهم عصابات الجرائم وجماعات الارهاب المنظمة بالانضمام اليها. في مخيلة هؤلاء النسوة المساهمة في القرار السياسي، والدفاع عن حقوق المرأة، واشغال مراكز وزارية او العمل في الهيئات الدبلوماسية . قالت شابة تعمل محاسبة: ان معظم الخريجات من حملة شهادة البكالوريوس عاطلات بدون عمل، مكتئبات الي حد القبول بأن يكن ضرائر (زوجة ثانية) من أجل البقاء . واردفت اخري ان المقهي الذي تمتلكه في المنطقة الخضراء قد قُصف لأن بعض الأمريكان قد ارتادوه. انها تتطلع الي السلام لتستأنف عملها.
واليوم الثالث كان عن الأمن. في قاعة الحضور، برز رأس شخص أفغاني من خلف صف من مقاعد ذات قماش مخملي عنابي؛ رجل أعمال مغمور يحاول اقناعي بفكرة استئجار نساء كحارسات شخصيات. وأسهب في سبب حبه العمل مع النساء، وتدريبهن علي وسائل الاشتباك القريب وانقاذ الرهائن: انهن كالحرباوات، يمكنهن قطع رقبة شخص ما، ومن ثم الانصراف لتغيير حضينة الطفل . سألته: ولم ترغب اي امرأة القيام بعمل كهذا؟ فأجاب: لا يتعلق الأمر بالتمييز علي أساس الجنس او تفوق النُخب، هن يعملن معنا لأننا أناس طيبون . هنا تحولتُ الي اسلوب ادارة المقابلات:
ـ ماهو اختصاصك؟
ـ ادارة قرارات الصراعات، ويؤسفني أن لا أتمكن من الاضافة.
ـ مالذي يمكن أن يخيف شخص بقوتك وخشونتك؟
ـ حسناً، لا أحسب ان شيئاً في هذه الدنيا يمكن أن يخيفني، ولكن اكره أن أفشل فيقل شأني أمام رجالي. لا أحب أن أكون علي خطأ.
ـ بم يحلم رجل الأمن؟
ـ أن أتقاعد قبل بلوغي سن الأربعين. وأن أحقق حلمي في أن أصنع سكاكين.
ـ هل لديك بنات؟
ـ اثنتان.
ـ هل ستدربهما علي أن يصبحا حارستين شخصيتين؟
صمت.

بتول الخضيري ولدت من أب عراقي وأم اسكتلندية عام 1965. عاشت في العراق حتي سن 24. والكاتبة مقيمة في الأردن حيث نشرت روايتها الاولي كم بدت السماء قريبة والثانية غايب .


ترجم المقال عن الانكليزية عبد الإله السامرائي.

 

back